منبر تحت النار.. كيف تحوّلت الصحافة في ليبيا إلى مخاطرة يومية؟
منبر تحت النار.. كيف تحوّلت الصحافة في ليبيا إلى مخاطرة يومية؟
تواجه حرية الصحافة في ليبيا تحديات متزايدة منذ سقوط نظام القذافي عام 2011، حيث تعرّضت البيئة الإعلامية للتسييس والتجاذبات المسلحة، وتقلّصت مساحات التعبير الحر، في ظل غياب تشريعات حديثة تنظّم العمل الإعلامي وتحمي الصحفيين، وتُعد ليبيا واحدة من أخطر البيئات للعمل الصحفي في المنطقة العربية، بحسب مؤشرات دولية متعددة.
ورغم أن الدستور المؤقت والقوانين الليبية تضمن حرية التعبير، فإن الواقع اليومي للصحفيين يروي حكاية مختلفة، تراوح فيها الانتهاكات بين التهديد والمنع والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي.
وبمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة الذي تحييه الأمم المتحدة سنويًا في 3 مايو من كل عام ترصد “جسور بوست” كيف تحوّل العمل الصحفي في ليبيا إلى مغامرة محفوفة بالأخطار في بيئة إعلامية متشظية تفتقر إلى الحماية القانونية، ومع تعدد الجهات المسيطرة على المشهد الإعلامي، أصبح السعي وراء الحقيقة مهمة خطرة، ولم تعد الصحافة في ليبيا مجرد مهنة بل أصبحت تحديًا شخصيًا، تُمارس وسط مناخ يتسم بالخوف والرقابة.
تقدمت ليبيا في تقرير "مراسلون بلا حدود" لعام 2024 إلى المرتبة 143 من أصل 180 دولة، متقدمة بست مراتب عن العام السابق. إلا أن هذه الطفرة الطفيفة لم تغيّر من واقع التصنيف العام للبلاد كـ"بؤرة سوداء إعلاميًا"، حيث يواجه الصحفيون ضغوطًا وانتهاكات متواصلة، ويُجبر كثيرون على تبني روايات تخدم أطراف النزاع، ما يقوّض استقلالية التغطية الصحفية.
الواقع الإعلامي في ليبيا
عدّت الصحفية ربيعة حباس الواقع الإعلامي في ليبيا لا يمت للصحافة بصلة، قائلة: "ما نمارسه لا علاقة له بالصحافة سوى بالاسم"، وأوضحت أن من أبرز التحديات غياب النقابة المهنية، مضيفة: "النقابة مغيبة وليست غائبة، وكل محاولة لتأسيسها تُقابل بالعرقلة"، ما يعني غياب الحقوق الأساسية من تأمين صحي وتدريب وأجور عادلة، خاصة لأولئك الذين يعملون في التحقيقات الصحفية ومتابعة المسؤولين.
وأشارت حباس في تصريحها لـ"جسور بوست" إلى أن الصحفي بات يعمل في أجواء من الحذر الشديد، وقالت: "لا نستطيع التطرق إلى قضايا حساسة دون الخوف من الملاحقة أو التهديد من جماعات مسلحة"، وأوضحت أن العمل الصحفي اليوم يقتصر على تغطية المؤتمرات والفعاليات الرسمية كخيار وحيد يضمن السلامة الشخصية.
انتقدت حباس النظرة الرسمية السائدة تجاه الصحفيين، معتبرة السلطات تنظر إلى الإعلام كونه أداة يجب أن تبقى ضمن الإطار المرسوم لها، حتى خلال المؤتمرات الرسمية، وأردفت: "نُمنع أحيانًا من التصوير أو يُسمح فقط لجهات محددة بالتغطية الإعلامية، حسب اختيارات الجهة المنظمة".
وشددت الصحفية على أن الاحتفال بحرية الصحافة لا يكون بالشعارات أو الفعاليات، بل بالتشريعات والحماية المهنية والجدية في التعامل مع الصحفيين كسلطة رابعة، وقالت: "نريد إعلامًا يبني المجتمعات، ويفضح شبكات الفساد، ويعيد للصحافة مكانتها ودورها الحقيقي".
اعتذار لا يُجدي شيئًا
بدوره، رأى الصحفي سليمان الفرجاني، أن واقع الصحافة في ليبيا لا يزال يرزح تحت وطأة المتغيرات والأخطار، مشيرًا إلى أن غياب القوانين المنظمة للمهنة، إلى جانب الانتهاكات التي تُمارسها بعض الجهات ضد الصحفيين، يُفرغ العمل الصحفي من جوهره ويجعله محفوفًا بالقيود.
وأضاف الفرجاني، لـ"جسور بوست": "غالبًا ما تُختتم تلك الانتهاكات باعتذار لا يُسمن ولا يُغني من جوع"، مقارنًا بين أوضاع الصحفيين في ليبيا ونظرائهم في الدول المجاورة، معتبرًا أن الصحفي هناك يُعامل باحترام، ويُنظر إليه باعتباره ممثلًا للسلطة الرابعة، وقال: "في كل الأماكن التي يحضر فيها الصحفي خارج ليبيا، يُقابل بالاحترام والتقدير، وهو أمر نفتقده هنا".
وعن أبرز التحديات التي يواجهها الصحفيون في ليبيا، أشار إلى أن التحديات الأمنية واللوجستية تتصدر المشهد، موضحًا أن غياب كيان نقابي أو جهة تمثل الصحفيين يجعلهم عرضة للممارسات القمعية دون أي حماية، وقال: "لا يوجد في ليبيا جسم يُشبه النقابات في الدول العربية أو الإفريقية، وهو ما يضاعف من هشاشة وضعنا -نحن الصحفيين".
ولفت إلى أن غياب الحرية لا يعني بالضرورة المنع الرسمي، بل يتمثل أحيانًا في الرقابة الذاتية التي تُفرض على الصحفي تحت وطأة الخوف، مضيفًا: "أشعر في كثير من الأحيان أنني لست حرًا، فأضطر إلى مراجعة المصطلحات وصياغة الأخبار بحذر خشية الملاحقة أو التأويل".
ودعا الفرجاني، إلى تأسيس جسم مهني يحمي الصحفيين، وينظم شؤونهم، ويتيح لهم فرص التدريب والتطوير، مؤكدًا: "نحتاج إلى كيان يدافع عنا، ويفتح لنا آفاق المشاركة في اللقاءات والورش محليًا وعربيًا ودوليًا"، متمنيًا أن تزدهر الصحافة في ليبيا، وأن ينعم الصحفيون بحرية حقيقية وآمنة في نقل الخبر.
انفتاح نسبي بلا حماية حقيقية
من واقع خبرتها وعملها الصحفي، رأت الصحفية هند علي الهوني، من المنطقة الشرقية، أن الصحافة في ليبيا اليوم تشهد انفتاحًا نسبيًا مقارنة بما قبل عام 2011، خصوصًا في مجال إبداء الرأي وطرح القضايا، وقالت: "أنا عاصرت العهدين، وألاحظ أن الوسائل الإعلامية الرسمية، وعلى رأسها الصحف الورقية، أصبحت أكثر جرأة في تناول قضايا مباشرة، لكن هذا الانفتاح لا يصاحبه وجود حماية حقيقية للصحفيين".
وأوضحت الهوني، لـ"جسور بوست"، أن الصحافة قبل 2011 كانت أكثر تحفظًا وخوفًا من تناول المواضيع ذات الطابع السياسي، رغم ما كانت تتضمنه من ملفات وتحقيقات في الشأن البيئي والاجتماعي والاقتصادي، مشيرة إلى أن الصحف آنذاك كانت تُتهم بأنها مسيّسة ولا تُقرأ، أما بعد 2011، فقد تغيرت المعادلة نسبيًا، إذ باتت الصحف الورقية تتناول قضايا وأشخاصًا بعينهم بواقعية مباشرة، لكن دون أن يكون هناك غطاء قانوني أو أمني يحمي الصحفي من التبعات والأخطار.
وعن التحديات التي تواجهها كامرأة صحفية، تحدّثت الهوني عن غياب أبسط حقوق العاملين في المؤسسات الإعلامية العامة، مثل التأمين الطبي وعلاوة الخطر، مؤكدة أن هذه الحقوق غائبة منذ عقود، رغم أن "الصحافة مهنة المتاعب بحق"، كما وصفتها، وتابعت: "أما خارج المؤسسة، فنواجه -نحن النساء- قيودًا مجتمعية من الأسرة والمحيط، والنظرة الدونية، وبيئة يغلب عليها الطابع الذكوري تجعل من عمل المرأة الصحفية أمرًا شاقًا مليئًا بالتحديات".
وتطرقت الهوني إلى الإحباط الذي يواجه الصحفيين عند عدم وجود تفاعل أو صدى لتحقيقاتهم من قبل الجهات الرسمية، رغم ما يبذلونه من جهد ومخاطرة، مشددة على أن الإعلام جزء لا يتجزأ من منظومة الإصلاح والرقابة، لكن دوره ما زال مهمشًا.
أما على الصعيد التشريعي، فعدّت القوانين المنظمة للإعلام في ليبيا قديمة وتحتاج إلى مراجعة وتحديث، ولا سيما قانون الجرائم الإلكترونية، الذي قالت إنه يتطلب لوائح تفسيرية واضحة، إلى جانب الحاجة لقوانين تحمي الصحفيين وتعزز من قدرتهم على الوصول للمصادر والمعلومات.
ووجّهت الهوني رسالة إلى المسؤولين بمناسبة اليوم الدولي لحرية الصحافة، قالت فيها: "لا تستخدموا الإعلام أداة لخدمة مصالحكم، أو وسيلة لتكريس سلطتكم، بل دعوه ليكون وسيلة لنقل الجهود والنتائج كما هي. الإعلام ليس خصمًا لأحد، بل هو ركيزة لبناء الدول، لا تحتكروه ولا تستغلوه في معارك سياسية تُفاقم من واقعنا المنقسم أصلًا".
استقلالية مفقودة ومخاوف متزايدة
وفي السياق، عبّر الصحفي المستقل معتز ماضي عن قلقه البالغ من تدهور وضع الصحافة في ليبيا خلال السنوات الأخيرة، مؤكدًا أن الاستقلالية والموضوعية الإعلامية تراجعت بشكل خطِر في ظل هيمنة المعسكرات السياسية على المؤسسات الإعلامية، وتوسع نفوذ الجهات الموجودة في السلطة.
وقال ماضي، لـ"جسور بوست": "إن أغلب وسائل الإعلام أصبحت خاضعة لسيطرة سياسية مباشرة، وهو ما أفقد الصحفيين القدرة على العمل بحرية"، لافتًا إلى أن البيئة العامة لم تعد صحية لإنتاج محتوى صحفي مستقل.
وأشار إلى أن كثيرًا من الصحفيين أُجبروا على العمل في وسائل إعلام موجهة بسبب غياب البدائل وصعوبة العثور على مؤسسات توفر مساحة حقيقية للتعبير الحر، مضيفًا: "نحن اليوم لا نشعر بأي نوع من الحرية، بل العكس، أصبح الخوف مزروعًا فينا، ونخشى الملاحقة لمجرد التعبير الصريح عن واقع نعيشه".
ووصف ماضي غياب نقابة موحدة للصحفيين في ليبيا بأنه أحد الأسباب الرئيسية في استمرار تدهور حرية الصحافة، موضحًا أن وجود كيان نقابي قوي وموحد كان سيُحدث فرقًا في الدفاع عن حقوق الصحفيين أمام الجهات الحكومية والتشريعية.
وفي سياق متصل، شدد على أن تحسين وضع الصحافة في ليبيا يتطلب خطوات جذرية، تبدأ بإعادة تأسيس الكيانات الإعلامية العامة والخاصة على أسس قانونية واضحة، مع ضرورة سن تشريعات تحمي الصحفي وتكفل له حق الوصول إلى المعلومة والتعبير عن رأيه بحرية.
وأكد أهمية وجود قوانين تنظيمية رادعة للممارسات الإعلامية غير المهنية، والتي لا تتماشى مع أسس الصحافة المستقلة المعروفة عالميًا.
وختم حديثه بالتعبير عن أمله في تحسين الوضع، رغم اعترافه بأن التحول الإيجابي يحتاج إلى وقت طويل في ظل غياب قيادات فاعلة وقواعد مؤسساتية يمكن الانطلاق منها نحو تغيير حقيقي.
40 مادة قانونية تقيد الصحافة
ومن جانبه، قال رئيس المنظمة الليبية للإعلام المستقل، رضاء فحيل البوم، إن هامش حرية الصحافة في ليبيا يشهد تراجعًا مستمرًا بسبب الرقابة الذاتية التي يفرضها الصحفيون على أنفسهم خوفًا من التهديد أو الاعتقال أو الانتقام، مشيرًا إلى أن حرية الصحافة في البلاد "ليست واقعية"، في ظل تضييق واسع النطاق تمارسه مختلف الجهات في الشرق والغرب والجنوب.
وأوضح فحيل البوم لـ"جسور بوست" أن المنظمة رصدت خلال السنوات الماضية كمًا كبيرًا من الانتهاكات ضد الصحفيين، أبرزها التحريض وخطاب الكراهية، الاعتقال، التشهير، وفرض قيود على التراخيص وبطاقات مزاولة المهنة.
وأشار إلى أن من أسباب الانتهاكات أيضًا عدم تقيد بعض الصحفيين بمدونات السلوك المهني، ما يؤدي إلى فوضى في المشهد الإعلامي وتبرير بعض الانتهاكات بحقهم، كما نبه إلى خطورة استمرار العمل بقانون المطبوعات لعام 1972، الذي يفرض عقوبات على الصحفيين الذين لا يحملون بطاقات معتمدة أو تراخيص، وهو ما تستغله بعض الجهات الأمنية لتوقيفهم ومضايقتهم.
وأضاف أن المنظمة أحصت نحو 40 مادة قانونية تُستخدم لتقييد حرية الصحافة في ليبيا، من بينها المواد 203 و206 و207 من القانون الليبي، والتي تُوظف أحيانًا لمعاقبة الصحفيين بتهم تتعلق بـ"نشر الشائعات".
تجاوب مسيّس ومحدود
وعن تجاوب السلطات مع تقارير المنظمة، قال فحيل البوم إن الاستجابة غالبًا ما تكون متفاوتة ومسيسة، مشيرًا إلى أنه عندما تصدر المنظمة بيانًا عن انتهاك في المنطقة الشرقية، قد تتجاوب معه سلطات المنطقة الغربية، والعكس، لكن في أحايين كثيرة لا تتجاوب أي من السلطتين.
وأكد أن الانقسام السياسي أثر بشكل مباشر في حرية عمل المؤسسات الإعلامية، حيث لا تستطيع وسائل الإعلام المحسوبة على إحدى المنطقتين العمل بحرية في الأخرى، وهو ما يُفاقم من التحديات أمام العمل الإعلامي الحر.
وأوضح رئيس المنظمة أن ليبيا تفتقر إلى تشريع حديث ينظم الإعلام ويضمن حق الوصول إلى المعلومة ويحمي الصحفيين، لافتًا إلى أن المنظمة أعدت في عام 2022 مقترح قانون للإعلام تم تقديمه إلى مجلس النواب والجهات المعنية، إلا أنه لم يُناقش حتى الآن.
وأضاف: "ليبيا ليست من بين الدول العربية الثلاث (تونس، المغرب، لبنان) التي أقرت قوانين تكفل الوصول إلى المعلومة، ومع ذلك فإن تطبيق هذا الحق ما زال يواجه تحديات حتى في تلك الدول، فما بالك بليبيا".
وختم فحيل البوم حديثه بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة، موجهًا دعوة للسلطات الليبية لتفعيل تعهداتها، خاصة المنشور رقم 8 لسنة 2020 الصادر عن رئيس الوزراء، مطالبًا بترجمته إلى قرارات ملموسة وتنفيذية، وسن قانون إعلام حديث يكفل حرية التعبير ويحمي الصحفيين من الملاحقة القانونية.
تقرير يرصد واقعًا مقلقًا
وثّقت المنظمة الليبية للإعلام المستقل في تقريرها السنوي الصادر بتاريخ 20 مايو 2023، وقوع 21 انتهاكًا بحق صحفيين ليبيين خلال الفترة الممتدة من 15 مايو 2022 حتى 15 مايو 2023، مشيرة إلى أن النسبة الكبرى من الانتهاكات تعلّقت بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وأكد التقرير، الذي حمل عنوان "النسبة الكبرى من الانتهاكات هي انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين"، أن 19 من أصل 21 انتهاكًا سُجّلت في هذا الإطار، في حين تعلّقت حالتان فقط بمخالفات قانونية وإجرائية لا تتماشى والمعايير الدولية لحرية الصحافة.
وتصدّرت قضية عدم دفع المستحقات المالية للصحفيين قائمة الانتهاكات بنسبة بلغت 47%، تلتها حالات منع التصوير والتغطية الإعلامية بنسبة 16%، كما وثّق التقرير شكاوى من التشهير، والتهديد، والمضايقات، والاعتداءات الجسدية بنسبة 10.5%، في حين مثّلت حالات مصادرة الأجهزة والمواد الصحفية نسبة 5.5% من الانتهاكات.
وأظهرت الإحصاءات أن 84% من الضحايا هم من الصحفيين الليبيين، فيما شكّل الصحفيون الأجانب نسبة 16%. أما النساء الصحفيات فقد تعرّضن لما نسبته 26% من مجمل الانتهاكات، ما يشير إلى استمرار استهدافهن بشكل مقلق.
سجّل التقرير تورّط المؤسسات الإعلامية الخاصة في 79% من الانتهاكات الموثقة، مقابل 21% فقط للمؤسسات الحكومية. كما تصدّرت العاصمة طرابلس خريطة الانتهاكات بنسبة 53%، تلتها عمان بنسبة 26%، ثم بنغازي بنسبة 11%، وسُجّلت حالات منفردة في صبراتة وطبرق بنسبة 5% لكل مدينة.
وأشار التقرير إلى أن أكثر من نصف الصحفيين المتضررين (56%) فضّلوا عدم الكشف عن هوياتهم أو تفاصيل الانتهاكات، خشية التعرّض لمزيد من التهديدات أو استهداف عائلاتهم، ما يعكس عمق الخوف المنتشر في أوساط الإعلاميين، ويُرجّح أن عدد الانتهاكات الفعلي يفوق الموثّق.
اعتداءات تطول مؤسسات إعلامية
شهد قطاع الإعلام الليبي بداية عام 2024 تصعيدًا جديدًا في الاعتداءات، بعد أن تعرّضت إذاعة "راديو لام" لحريق متعمّد دمّر كافة معدات البث وتسبّب في توقفها الكامل عن العمل.
كما اقتحم مجهولون مقر صحيفة "الوقت" الأسبوعية التابعة للهيئة العامة للصحافة في طرابلس، وأجبروا العاملين على مغادرة المكان بالقوة، ما أدى إلى توقف الصحيفة بشكل مفاجئ.
وتُضاف هذه الحوادث إلى سلسلة من الاعتداءات المتواصلة التي تطول المؤسسات الإعلامية في البلاد، وسط غياب تام للحماية القانونية والمجتمعية للصحفيين.
دعت المنظمة الليبية للإعلام المستقل إلى إصلاح الإطار القانوني المنظّم للعمل الصحفي في ليبيا، وسنّ تشريعات تضمن حرية التعبير وتكفل للصحفيين الحق في العمل دون خوف، كما طالبت بإنشاء نقابة موحدة تُعنى بالدفاع عن حقوق الصحفيين، وتوفير بيئة آمنة لهم بعيدًا عن الانتقام أو العقوبات التعسفية.
غياب آليات حماية الصحفيين
من جانبه، قال الدكتور جلال عُثمان، رئيس مجلس إدارة المؤسسة الليبية للصحافة الاستقصائية، ورئيس الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي في ليبيا، إن وضع حرية الصحافة في ليبيا مقلق للغاية، فليبيا ما تزال تعاني من انقسام سياسي وأمني حاد، وهذا الوضع أبرز بيئة عدائية للعمل الصحفي، وأسهم في تغول المليشيات المسلحة، التي تعد الصحفي هدفًا مشروعًا لها، حيث تشير التقارير -سواء المحلية أو الدولية- إلى تعرض الصحفيين الليبيين لتهديدات مستمرة تشمل الاعتداءات الجسدية، والاختطاف، والاعتقال التعسفي، والمضايقات، دون وجود آليات حماية فعالة أو محاسبة للمعتدين.
وأضاف الدكتور عثمان في تصريحات لـ"جسور بوست"، "بصفتي رئيسًا للهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي، فقد حصرنا عدد الصحفيين الذين تم قتلهم في ليبيا منذ عام 2005، وأحلنا القائمة إلى مكتب النائب العام، وطلبنا الإفادة فيما يتعلق بالإجراءات القانونية التي اتخذت حيال تلك القضايا، في إطار منع الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، خصوصًا أن الهيئة قد وقعت على خارطة طريق شاملة لتعزيز سلامة الصحفيين في المنطقة العربية، خلال المؤتمر الإقليمي العربي لليوم الدولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، في 3 نوفمبر 2022 بتونس، تحت إشراف منظمة اليونسكو.
وتابع: بالنسبة للصحافة الاستقصائية، فإن التحديات والأخطار أكبر بكثير، ما يجعل ممارستها شبه مستحيلة، أو تتطلب شجاعة استثنائية، ومخاطرة كبيرة بالحياة والسلامة الشخصية، خصوصًا في ظل القوانين الحالية، إذ تضم منظومة التشريعات الليبية الحالية، أكثر من 40 مادة سالبة للحرية، خصوصًا في قانون المطبوعات، وقانون الجرائم الإلكترونية، وقانون الإرهاب.
وقال إن التحديات التي يواجهها الصحفي الاستقصائي كثيرة، وأبرزها عدم وجود شفافية لدى المؤسسات الحكومية، إذ تعد هذه المؤسسات المعلومات -حتى الأساسية- أسرارًا، وتندرج ضمن الأمن القومي، إضافة إلى أن القانون الليبي يعد نشر الوثائق الرسمية جريمة، كما يواجه الصحفي مشكلة أساسية، وهي حرية النفاذ إلى المعلومات، وحماية المصادر، لذلك يخشى الموظفون داخل المؤسسات، أو حتى المواطنون العاديون، التحدث إلى الصحفيين الاستقصائيين، أو تزويدهم بالوثائق خوفًا من العقاب، أو الانتقام من قبل الجهات المتضررة من الكشف عن المعلومات، كذلك أسهم الاستقطاب السياسي في انتشار المعلومات المضللة، الأمر الذي أضاف أعباء إضافية على الصحفي الاستقصائي، فالتحقق من صحة المعلومات في ظل حكومة واحدة أمر بالغ الصعوبة، فما بالك بوجود حكومتين.
وقال الدكتور عثمان، إن البيئة السياسية والأمنية تؤثر بشكل مباشر، وتعوق بشكل كبير، قدرة الصحفيين على العمل بحرية، بل يمكن القول إن البيئة السياسية والأمنية ليستا مجرد مؤثر، بل هما العامل الأساس في العمل الصحفي، ويمكن القول إن البيئة السياسية والأمنية في ليبيا، خلقت بيئة طاردة للعمل الصحفي، والتأثير ليس مجرد مضايقات عرضية، بل تهديد وجودي، ومستمر يحد بشكل كبير من قدرة الصحفيين على البحث عن الحقيقة، ونقلها بحرية وأمان، ويجبرهم على العمل في ظل قيود لا متناهية، وأخطار يومية.
وأضاف: في ليبيا لا يوجد قانون ينظم الإعلام، باستثناء قانون المطبوعات رقم 76 لسنة 1972، والذي يضم (51) مادة لم تذكر فيها تعريفًا واحدًا لمن هو الصحفي، ومواده نصوص فضفاضة، وتتعارض مع المواثيق الدولية التي وقعت عليها ليبيا.
وعن الخطوات التي يجب اتخاذها لتحسين بيئة العمل الصحفي في ليبيا، قال الدكتور عثمان، إن من أهم الخطوات هي إجراء إصلاحات تشريعية، وعلى مجلس النواب سن قانون جديد للإعلام، حيث أحالت المنظمة الليبية للإعلام المستقل السنة الماضية مشروع قانون جديد أسهم فيه عدد من الصحفيين، والقانونيين، والحقوقيين، أيضًا إلغاء المواد المقيدة لحرية التعبير في قانون العقوبات، وإلغاء قانون الجرائم الإلكترونية، إعادة صياغة قانون الإرهاب، بما يتوافق مع الإعلان الدستوري، والمواثيق الدولية. وأدعو إلى تأسيس مجلس وطني للصحافة، يكون مستقلًا عن السلطة التنفيذية لتنظيم المهنة وحماية حقوق الصحفيين، وكذلك إيجاد آلية لمنع الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين.
واختتم حديثه قائلاً، أدعو جميع الصحفيين في ليبيا إلى نبذ الفرقة، وتغليب المصلحة العامة من خلال تأسيس نقابة تضم جميع الصحفيين، فما أراه من أجسام متفرقة، يدعو للحزن، يجب عليهم التفكير في بناء جسم نقابي، قبل التفكير فيمن يكون على رأس هذا الجسم، وأؤكد لهم أنه دون وجود صحافة حرة لن تكون هناك شفافية، أو عدالة اجتماعية، أو انتخابات شفافة، فالصحافة هي أول من يقف في وجه الفساد، وهي صوت العدالة، وهي من يصنع الوعي في المجتمع.